الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد **
وقوله الله تعالى: (وهم). أي: كفار قريش. (يكفرون بالرحمن). المراد أنهم يكفرون بهذا الاسم لا بالمسمي، فهم يُقرِّون به، قال تعالى: وقد قال الله تعالى: {قل أدعوا الله الرحمن أيًا ما تدعوا فله الأسماء الحسني} [الإسراء: 110]، أي: بأي اسم من أسمائه تدعونه، فإن له الأسماء الحسنى، فكل أسمائه حسنى، فادعوا بما شئتم من الأسماء، ويراد بهذا الآية الإنكار على قريش. وفي الآية دليل على أن من أنكر اسمًا من أسماء الله تعالى فإنه يكفر، لقوله تعالى: قوله: (لا إله إلا هو). خبر " لا " النافية للجنس محذوف، والتقدير: لا إله حق إلا هو، وأما الإله الباطل، فكثير، قال تعالى: قوله: (عليه توكلت). أي عليه وحده، لأن تقديم المعمول يدل على الحصر، فإذا قلت مثلًا: " ضربت زيداَ " فإنه يدل على أنك ضربته، ولكن لا يدل على أنك لم تضرب غيره، وإذا قلت: " زيدًا ضربت " دلت على أنك ضربت زيدًا ولم تضرب غيره، وسبق معنى التوكل وأحكامه. قوله: (وإليه متاب). أي: إلى الله. و(متاب) أصلها متابي، فحذفت الياء تخفيفًا، والمتاب بمعني التوبة، فهو مصدر ميمي، أي: وإليه توبتي. والتوبة: هي الرجوع إلى الله تعالى من المعصية إلى الطاعة، ولها شروط خمسة: 1- الإخلاص لله تعالى بأن لا يحمل الإنسان على التوبة مراعاة أحد أو محاباته أو شيء من الدنيا. 2- أن تكون في وقت قبول التوبة، وذلك قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل حضور الموت. 3- الندم على ما مضى من فعله، وذلك بأن يشعر بالتحسر على ما سبق ويتمنى أنه لم يكن. 4- الإقلاع عن الذنب، وعلى هذا، فإذا كانت التوبة من مظالم الخلق، فلابد من رد المظالم إلى أهلها أو استحلالهم منها. 5- العزم على عدم العودة، والتوبة التي لا تكون إلا لله هي توبة العبادة، كما في الآية السابقة، وأما التوبة التي بمعنى الرجوع، فإنها تكون له ولغيره، ومنه قول عائشة حين جاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوجد نمرقة فيها صور، فوقف بالباب ولم يدخل، وقالت: (أتوب إلى الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا لغيره من الخلق بل لله وحده، ولكن هذه توبة رجوع، ومن ذلك أيضًا حين يضرب الإنسان ابنه لسوء أدبه، يقول الابن: أتوب. وفي " صحيح البخاري ": قال علي " حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ ! " (1). قوله في أثر على رضي الله عنه: " حدثوا الناس ". أي: كلموهم بالمواعظ وغير المواعظ. قوله: " بما يعرفون ". أي بما يمكن أن يعرفوه وتبلغه عقولهم حتى لا يفتنوا، ولهذا جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قوله: " أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ ! " الاستفهام للإنكار، أي: أتريدون إذا حدثتم الناس بما لا يعرفون أن يكذب الله ورسوله، لأنك إذا قلت: قال الله وقال رسوله كذا وكذا، قالوا هذا كذب إذا كانت عقولهم لا تبلغه، وهم لا يكذبون الله ورسوله، ولكن يكذبونك بحديث تنسبه إلى الله ورسوله، فيكونون مكذبين لله ورسوله، لا مباشرة ولكن بواسطة الناقل. فإن قيل: قل ندع الحديث بما لا تبلغه عقول الناس وإن كانوا محتاجين لذلك؟ أجيب: لا ندعه، ولكن نحدثهم بطريق تبلغه عقولهم، وذلك بأن ننقلهم رويدًا رويدًا حتى يتقبلوا هذا الحديث ويطمئنوا إليه، ولا ندع ما لا تبلغه عقولهم ونقول: هذا شيء مستنكر لا نتكلم به. ومثل ذلك العمل بالسنة التي لا يعتادها الناس ويستنكرونها، فإننا نعمل بها ولكن بعد أن نخبرهم بها، حتى تقبلها نفوسهم ويطمئنوا إليها. ويستفاد من هذا الأثر أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل، وأنه يجب على الداعية أن ينظر في عقول المدعوين وينزل كل إنسان منزلته. * مناسبة هذا الأثر لباب الصفات: مناسبته ظاهرة، لأن بعض الصفات لا تحتملها أفهام العامة فيمكن إذا حدثتهم بها كان لذلك أثر سيئ عليهم، كحديث النزول إلى السماء الدنيا مع ثبوت العلو، فلو حَدّثت العاميّ بأنه نفسه ينزل إلى السماء الدنيا مع علوه على عرشفه، فقد يفهم أنه إذا أنزل؛ صارت السماوات فوقه وصار العرش خاليًا منه، وحينئذ لا بد في هذا من حديث تبلغه عقولهم فَتُبين لهم أن الله عز وجل ينزل نزولًا لا يماثله نزول المخلوقين مع علوه على عرشه، وأنه لكمال فضله ورحمته يقول: "من يدعوني فأستجيب له.." الحديث. والعامي يكفيه أن يتصور مطلق المعنى، وأن المراد بذلك بيان فضل الله عز وجل في هذه الساعة من الليل. وَرَوَى عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس: " أنه رأى رجلًا انتفض لما سمع حديثًا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصفات، استنكار لذلك، فقال: ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمة، ويهلكون عند متشابهة؟ ! " انتهي . قوله في أثر ابن عباس: " انتفض ". أي اهتز جسمه، والرجل مبهم، والصفة التي حُدث بها لم تبين، وبيان ذلك ليس مهمًا، وهذا الرجل انتفض استنكارًا لهذه الصفة لا تعظيمًا لله، وهذا أمر عظيم صعب، لأن الواجب على المرء إذا صح عنده شيء عن الله ورسوله أن يقر به ويصدق ليكون طريقه طريق الراسخين في العلم حتى وإن لم يسمعه من قبل أو يتصوره. قوله: " ما فرق ". فيها: ثلاث روايات: 1- " فرَقُ "، بفتح الراء، وضم القاف. 2- " فرَّق "، بفتح الراء مشددة وفتح القاف. 3- " فرَقَ "، بفتح الراء مخففة، وفتح القاف. فعلى رواية " فرق " تكون " ما " استفهامية مبتدأ، و" فرق ": خبر المبتدأ أي: ما خوف هؤلاء من إثبات الصفة التي تليت عليهم وبلغتهم، لماذا لا يثبتونها لله عز وجل كما أثبتها الله لنفسه وأثبتا له رسوله؟ وهذا ينصب تمامًا على أهل التعطيل والتحريف الذين ينكرون الصفات، فما الذي يخوفهم من إثباتها والله تعالى قد أثبتها لنفسه؟ وعلي رواية " فرق " أو " فرق " تكون فعلًا ماضيًا بمعني ما فرقهم، كقوله تعالى: {وقرآنًا فرقناه} [الإسراء: 106]، أي: فرقناه. و" ما " يحتمل أن تكون نافية، والمعنى: ما فرق هؤلاء بين الحق والباطل، فجعلوا هذا من المتشابه وأنكروه ولم يحملوه على المحكم، ويحتمل أن تكون استفهامية والمعني: أي شيء فرقهم فجعلهم يؤمنون بالمحكم ويهلكون عند المتشابه؟ قوله: " يجدون رقة عند محكمة ". الرقة: اللين والقبول، و " محكمه "، أي: محكم القرآن. قوله: " ويهلكون عند متشابه ". أي: متشابه القرآن. والمحكم الذي اتضح معناه وتبين، والمتشابه هو الذي يخفي معناه، فلا يعلمه الناس، وهذا إذا جمع بين المحكم والمتشابه، وأما إذا ذكر المحكم مفردًا دون المتشابه، فمعناه المتقن الذي ليس فيه خلل: لا كذب في أخباره، ولا جور في أحكامه، قال تعالى: وإذا ذكر المتشابه دون المحكم صار المعنى أنه يشبه بعضه بعضًا في جودته وكماله، ويصدق بعضه بعضًا ولا يتناقض، قال تعالى والفرق بينهما: أن المطلق يخفى على كل أحد، والنسبي يخفي على أحد دون أحد، وبناء على هذا التقسيم ينبني الوقف في قوله تعالى: القول الأول: الوقف على (إلا الله)، وعليه أكثر السلف، وعلى هذا، فالمراد بالمتشابه المتشابه المطلق الذي لا يعلمه إلا الله، وذلك مثل كيفية وحقائق صفات الله، وحقائق ما أخبر الله به من نعيم الجنة وعذاب النار، قال الله تعالى في نعيم الجنة: والقول الثاني: الوصل، فيقرأ: وبعض أهل العلم يظنون أن في القرآن ما لا يمكن الوصول إلى معناه، فيكون من المتشابه المطلق، ويحملون آيات الصفات على ذلك، وهذا من الخطأ العظيم، إذ ليس من المعقول أن يقول الله تعالى: {كتاب أنزلناه مبارك ليدبروا آياته} [ص: 29]، ثم تستثني الصفات وهي أعظم وأشرف موضوعًا وأكثر من آيات الأحكام، ولو قلنا بهذا القول، لكان مقتضاه أن أشرف ما في القرآن موضوعًا يكون خفيًا، ويكون معنى قوله تعالى: (ليدبوا آياته)، أي: آيات الأحكام فقط، وهذا غير معقول، بل جميع القرآن يفهم معناه، إذا لا يمكن أن تكون هذه الأمة من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى آخرها لا تفهم معني القرآن ، وعلى رأيهم يكون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر وعمر وجميع الصحابة يقرؤون آيات الصفات وهم لا يفهمون معناها، بل هي عندهم بمنزلة الحروف الهجائية أ، ب، ت.. والصواب أنه ليس في القرآن شيء متشابه على جميع الناس من حيث المعنى، ولكن الخطأ في الفهم. فقد يقصر الفهم عن إدراك المعني أو يفهمه على معنى خطأ، وأما بالنسبة للحقائق، فما أخبر الله به من أمر الغيب، فمتشابه على جميع الناس. ولما سمعت قريش رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يذكر الرحمن، أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: قوله: " ولما سمعت قريش رسول الله يذكر الرحمن ". أصل ذلك أن سهيل بن عمرو أحد الذين أرسلتهم قريش لمفاوضة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صلح الحديبية وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال " أما الرحمن، فلا والله ما أدري ما هي: وقالوا: إننا لا نعرف رحمانًا إلا رحمن اليمامة. فأنكروا الاسم دون المسمى، فأنزل الله: وفي الآية دليل على أن من أنكر اسمًا من أسماء الله الثابتة في الكتاب أو السنة، فهو كافر لقوله تعالى: وقوله: " ولما سمعت قريش ". الظاهر والله أعلم أنه من باب العام الذي أريد به الخاص، وليس كل قريش تنكر ذلك، بل طائفة منهم، ولكن إذا أقرت الأمة الطائفة على ذلك ولم تنكر، صح أن ينسب لهم جميعًا، بل أن الله نسب إلى اليهود في زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما فعله أسلافهم في زمن موسى عليه السلام، قال تعالى * فيه مسائل: الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات. الثانية: تفسير آية الرعد. الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع. الرابعة: ذكر العلة: أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله ولو لم يتعمد المنكر. الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئًا من ذلك، وأنه أهلكه. قوله فيه مسائل: الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات. عدم بمعنى انتفاء أي: انتفاء الإيمان بسبب جحد شيء من الأسماء والصفات، وسبق التفصيل في ذلك. الثانية: تفسير آية الرعد. وهي قوله تعالى: الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع. وهذا ليس على إطلاقه، وقد سبق التفصيل فيه عند شرح الأثر. الرابعة: ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله ولو لم يتعمد المنكر. وهي أن الذي لا يبلغ عقله ما حدث به يفضي به التحديث إلى تكذيب الله ورسوله، فيكذب ويقول: هذا غير ممكن، وهذا يوجد من بعض الناس في أشياء كثيرة مما أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يكون يوم القيامة، كما أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: وقوله: " ولو لم يتعمد المنكر ". أي: ولو لم يقصد المنكر تكذيب الله ورسوله، ولكن كذب نسبة هذا الشيء إلى الله ورسوله، وهذا يعود بالتالي إلى رد خبر الله ورسوله. الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئًا من ذلك وأنه أهلكه. وذلك قوله: " ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة أي لينًا عند محكمه فيقبلونه، ويهلكون عند متشابه فينكرونه؟ ". ******
|